روائع مختارة | قطوف إيمانية | نور من السنة | اليتيم في حياة النبي.. صلى الله عليه وسلم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
روائع مختارة
الصفحة الرئيسية > روائع مختارة > قطوف إيمانية > نور من السنة > اليتيم في حياة النبي.. صلى الله عليه وسلم


  اليتيم في حياة النبي.. صلى الله عليه وسلم
     عدد مرات المشاهدة: 8124        عدد مرات الإرسال: 0

اهتم رسول الله صلى الله عليه وسلم ـ  بالمثل العالية والأخلاق السامية، التي تصوغ الحياة في إطار المودة والتعاطف، وتوحد طاقات المجتمع في بوتقة التكافل الاجتماعي. .

وقد بين لنا ـ  صلى الله عليه وسلم ـ  ما ينبغي أن تكون عليه علاقة المؤمنين بعضهم ببعض، فجعلها مثل البناء المتلاحم الذي لا خلل فيه، فقال ـ  صلى الله عليه وسلم: (المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضا) رواه البخاري..

وصور لنا النبي ـ  صلى الله عليه وسلم ـ  تلاحم العواطف، وقوة شعور الفرد بإخوانه المسلمين بقوله: (إن المؤمن من أهل الإيمان بمنزلة الرأس من الجسد، يألم المؤمن لأهل الإيمان، كما يألم الجسد لما في الرأس) رواه أحمد..

ومن ثم فإن رابطة الأخوة بين المسلمين توجب على الموسر منهم مساعدة المعسر، وأي عسر أعظم من اليتم، فاليتم مظهر واضح للضعف، والحاجة إلى المعونة والرفق والرعاية. .

وكان رسول الله ـ  صلى الله عليه وسلم ـ  من أوائل الذين لمسوا آلام اليتيم وأحزانه، ومن ثم اهتم ـ  صلى الله عليه وسلم ـ  باليتيم اهتماماً بالغاً من حيث تربيته ورعايته ومعاملته، وضمان سبل العيش الكريمة له، حتى ينشأ عضواً نافعاً.

ولا يشعر بالنقص عن غيره من أفراد المجتمع، فيتحطم ويصبح عضواً هادماً في الحياة. . فقال ـ  صلى الله عليه وسلم ـ  حاثا وآمرا ومحفزا على رعاية اليتيم: (أنا وكافل اليتيم في الجنة هكذا، وأشار بالسبابة والوسطى وفرج بينهما شيئاً) رواه البخاري.

قال ابن بطال: " حق على من سمع هذا الحديث أن يعمل به ليكون رفيق النبي ـ  صلى الله عليه وسلم ـ  في الجنة، ولا منزلة في الآخرة أفضل من ذلك ".

وجعل رسول الله ـ  صلى الله عليه وسلم ـ  الإحسان إلى اليتيم علاجا لقسوة القلب، وإن أبعد القلوب عن الله القلب القاسي، فعن أبي الدرداء ـ  رضي الله عنه ـ  قال: أتى النبيَّ ـ  صلى الله عليه وسلم ـ  رجل يشكو قسوة قلبه، فقال له النبي ـ  صلى الله عليه وسلم ـ :  (أتحب أن يلين قلبك وتدرك حاجتك؟ ، ارحم اليتيم، وامسح رأسه، وأطعمه من طعامك، يلن قلبك وتدرك حاجتك) رواه الطبراني.

كما بشر النبي ـ  صلى الله عليه وسلم ـ  من أحسن إلى اليتيم ولو بمسح رأسه ـ  ابتغاء وجه الله ـ  بالأجر والثواب الكبير، حيث قال ـ  صلى الله عليه وسلم ـ :  (من مسح رأس يتيم ـ  لم يمسحه إلا لله ـ  كان له بكل شعرة مرت عليها يده حسنات، ومن أحسن إلى يتيمة أو يتيم عنده، كنت أنا وهو في الجنة كهاتين) رواه أحمد.

وهذا التوجيه الذي ذكره الرسول ـ  صلى الله عليه وسلم ـ  من مسح شعر اليتيم، هو الحد الذي لا يصعب على أحد، ويمكن أن يقوم به كل إنسان، فيشعر اليتيم بالحب والحنان، ثم هو يجلب له الحسنات.

بل كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحرص كل الحرص على رعاية مشاعر الأيتام وإدخال السرور عليهم، ففي قصة اختصام أبي لبابة ـ  رضي الله عنه ـ  ويتيم في نخلة، قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي لبابة بالنخلة لأن الحق كان معه، لكنه ـ  صلى الله عليه وسلم ـ  لما رأى الغلام اليتيم يبكي.

قال لأبي لبابة: (أعطه نخلتك، فقال: لا، فقال أعطه إياها ولك عذق في الجنة، فقال: لا، فسمع بذلك ابن الدحداحة فقال لأبي لبابة: أتبيع عذقك ذلك بحديقتي هذه؟ ، فقال نعم. . ثم جاء رسولَ الله ـ  صلى الله عليه وسلم ـ 

فقال: النخلة التي سألت لليتيم أن أعطيته ألِي بها عذق في الجنة؟ ! ، فقال رسول الله ـ  صلى الله عليه وسلم ـ  نعم. ثم قُتِل ابن الدحداحة شهيدا يوم أحد، فقال رسول الله ـ  صلى الله عليه وسلم ـ :  رُب عذق مذلل لابن الدحداحة في الجنة) رواه البيهقي.

وقد مدح النبي ـ  صلى الله عليه وسلم ـ  نساء قريش لرعايتهن اليتامى، فقال ـ  صلى الله عليه وسلم ـ :  (خير نساء ركبن الإبل نساء قريش، أحناه على يتيم في صغره، وأرعاه على زوج في ذات يده) رواه أحمد.

ولما مات جعفر بن أبي طالب ـ  رضي الله عنه ـ  تعهد الرسول ـ  صلى الله عليه وسلم ـ  أولاده وأخذهم معه إلى بيته، فلما ذكرت أمهم من يتمهم وحاجتهم، قال ـ  صلى الله عليه وسلم ـ :  (العيلة (يعني الفقر والحاجة) تخافين عليهم وأنا وليهم في الدنيا والآخرة) رواه أحمد.

ثم إن النبي ـ  صلى الله عليه وسلم ـ  لم يقتصر في اهتمامه باليتيم على أسلوب الحث والترغيب، بل استخدم أيضا أسلوب التحذير من الإساءة إلى الأيتام، أو أكل أموالهم بالباطل، بحيث لا يُقْدم على فعل ذلك إلا من قسى قلبه.

وغلبت عليه شقوته، فعن أبي هريرة ـ  رضي الله عنه ـ  أن النبي ـ  صلى الله عليه وسلم ـ  قال: (اجتنبوا السبع الموبقات (المهلكات) ، قالوا: يا رسول الله، وما هن؟ ، قال: الشرك بالله، والسحر، وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق، وأكل الربا،.

والتولي يوم الزحف، وقذف المحصنات المؤمنات الغافلات) رواه البخاري.. فعدَّ الرسول ـ  صلى الله عليه وسلم ـ  أكل مال اليتيم من السبع الموبقات، ومن كبائر الذنوب وعظائم الأمور. . أكل مال اليتيم،

ولخطورة وعظم حق مال اليتيم، وجه رسول الله ـ  صلى الله عليه وسلم ـ  من كان ضعيفاً من الصحابة ألا يتولين مال يتيم، فعن أبي ذر - رضي الله عنه - أن رسول الله ـ  صلى الله عليه وسلم ـ  قال: (يا أبا ذر، إني أراك ضعيفا، وإني أحب لك ما أحب لنفسي، لا تأمرن على اثنين، ولا تولين مال يتيم) رواه مسلم.

وقد ترجم المسلمون الأوائل هذه التوجيهات النبوية ترجمة عملية، ومن ينظر في حال سلفنا الصالح، يظهر له بوضوح مقدار الحرص على رعاية اليتيم وكفالته، طلبا وبحثا عن ترقيق القلوب والأجر العظيم، ومرافقة النبي ـ  صلى الله عليه وسلم ـ  في الجنة، فهو القائل ـ  صلى الله عليه وسلم ـ :  (أنا وكافل اليتيم في الجنة هكذا، وأشار بالسبابة والوسطى وفرج بينهما شيئاً) رواه البخاري. .
 
تعتبر السيرة النبوية بأحداثها وتفاصيلها مدرسة نبويّة متكاملة، لما تحمله بين ثناياها من المواقف التربوية العظيمة والفوائد الجليلة، التي تضع للدعاة والمعلمين والمربين منهج التربية وحسن التعامل مع مواقف الحياة ومجرياتها، وهذه بعض من المواقف التربوية من حياة وسيرة نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم -:  

الشورى والمساواة من غزوة بدر والأحزاب:

غزوة بدر هي إحدى الغزوات المليئة بالمواقف التربوية، ولعل من أبرزها موقف النبي ـ  صلى الله عليه وسلم ـ  في تأكيده لمبدأ الشورى، باعتباره مبدأً من مباديء الشريعة، وصورة من صور التعاون على الخير، يحفظ توازن المجتمع، ويجسّد حقيقة المشاركة في الفكر والرأي، بما يخدم مصلحة الجميع. .

فرسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو المؤيَّد بالوحي - استشار أصاحبه في تلك الغزوة أربع مرات: حين الخروج لملاحقة العير، وعندما علم بخروج قريشٍ للدفاع عن أموالها، واستشارهم عن أفضل المنازل في بدر، واستشارهم في موضوع الأسرى.

وكل ذلك لِيُعَُّلم الأمة أن تداول أي فكرة وطرحها للنقاش يسهم في إثرائها وتوسيع أفقها، ويساعد كذلك على إعطاء حلول جديدة للنوازل الواقعة.

وهذا الموقف التربوي في ترسيخ مبدأ الشورى ظهر كذلك جليا في غزوة الأحزاب، إذ لما سمع رسول الله ـ  صلى الله عليه وسلم ـ  بزحف الأحزاب إلى المدينة، وعزمها على حرب المسلمين، استشار أصحابه، وقرروا بعد الشورى التحصن في المدينة والدفاع عنها، وأشار سلمان الفارسي ـ  رضي الله عنه ـ  اعتمادا علي خبرته في حرب الفرس، بحفر خندق حول المدينة.

وقال: " يا رسول الله، إنا كنا بأرض فارس إذا حوصرنا خندقنا علينا ". . فوافقه وأقره النبي ـ  صلى الله عليه وسلم ـ  وأمر بحفر الخندق حول المدينة، وتمّ تقسيم المسؤولية بين الصحابة. .

لقد أنزل الرسول ـ  صلى الله عليه وسلم ـ  الشورى منزلتها ورسخَّها في حياة الأمة، إذ الحاجة إليها في الشدائد والقرارات المصيرية على غاية من الأهمية، فالشورى استفادة من كل الخبرات والتجارب، واجتماع للعقول في عقل، وبناء يساهم الجميع في إقامته، ولذا قال الله تعالى: {وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ} (الشورى: من الآية38) . .

كما أقرّ النبي ـ  صلى الله عليه وسلم ـ  في غزوة بدر والأحزاب ـ  وغيرهما من غزوات ـ  بمبدأ آخر لا يقلّ أهمية عن سابقه، وهو تطبيق المساواة بين الجندي والقائد، ومشاركته لهم في الظروف المختلفة، يتضح ذلك في موقفه وإصراره ـ  صلى الله عليه وسلم ـ  في غزوة بدر على مشاركة أبي لبابة وعلي بن أبي طالب ـ  رضي الله عنهما ـ  في المشي وعدم الاستئثار بالراحلة. .

وفي الأحزاب تولى المسلمون وعلى رأسهم رسول الله ـ  صلى الله عليه وسلم ـ  المهمة الشاقة في حفر الخندق، وكان لمشاركته ـ  صلى الله عليه وسلم ـ  الفعلية في الحفر الأثر الكبير في الروح العالية التي سيطرت على المسلمين. .

لقد أعطى رسول الله ـ  صلى الله عليه وسلم ـ  في بدر والأحزاب ـ  وغيرهما من الغزوات ـ  موقفا تربويا عمليا في الشورى وأهميتها، وفي مشاركته لأصحابه التعب والعمل، والآلام والآمال. .

لا. . للعصبية والفرقة في غزوة بني المصطلق:

عند ماء المريسيع كشف المنافقون عن حقدهم الذي يضمرونه للإسلام والمسلمين، فسعوا ـ  كعادتهم دائما إلى يومنا هذا ـ  إلى محاولة التفريق بين المسلمين، فبعد انتهاء الغزوة ـ  كما يقول جابر بن عبد الله ـ  رضي الله عنه ـ :  ضرب رجل من المهاجرين رجلا من الأنصار، فقال الأنصاري: يا للأنصار.

وقال المهاجري: يا للمهاجرين. . فاستثمر المنافقون ـ  وعلى رأسهم عبد الله بن أبي بن سلول ـ  هذا الموقف، وحرضوا الأنصار على المهاجرين، فسمع ذلك رسول الله ـ  صلى الله عليه وسلم ـ  ، فقال: (ما بال دعوى الجاهلية؟ ! ، قالوا يا رسول الله: كسع رجل من المهاجرين رجلا من الأنصار، فقال رسول الله ـ  صلى الله عليه وسلم ـ :  دعوها فإنها منتنة) رواه البخاري.

فمع أن اسم المهاجرين والأنصار من الأسماء الشريفة التي تدل على شرف أصحابها، وقد سماهم الله بها على سبيل المدح لهم، فقال تعالى: {وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ} (التوبة: من الآية100).

إلا أن هذه الأسماء لما استُعْمِلت الاستعمال الخاطئ لتفريق المسلمين وإحياء للعصبية الجاهلية، أنكر ذلك رسول الله ـ  صلى الله عليه وسلم ـ  إنكارا شديدا، وقال قولته الشديدة: (دعوها فإنها منتنة) ، وذلك حفاظا على وحدة الصف للمسلمين.

والتحذير من العصبية بجميع ألوانها، سواء كانت عصبية تقوم على القبلية، أو الجنس، أو اللون أو غير ذلك. . وهذا موقف تربوي عظيم من النبي ـ  صلى الله عليه وسلم ـ  للأمة الإسلامية على مر العصور. .

إقالة ذوي العثرات:

عندما أكمل الرسول - صلى الله عليه وسلم - استعداده للسير إلى فتح مكة، كتب حاطب بن أبي بلتعة ـ  رضي الله عنه ـ  إلى قريش كتاباً يخبرهم بمسير رسول الله ـ  صلى الله عليه وسلم ـ  إليهم، ثم أعطاه امرأة، وجعل لها أجراً على أن تبلغه إلى قريشز

فجعلته في ضفائر شعرها، ثم خرجت به إلى مكة، ولكن الله ـ  تعالى ـ  أطلع نبيه - صلى الله عليه وسلم - بما صنع حاطب، فقضى ـ  صلى الله عليه وسلم ـ  على هذه المحاولة، ولم يصل قريش أي خبر من أخبار تجهز المسلمين وسيرهم لفتح مكة. .

والخطأ الذي اقترفه هذا الصحابي الجليل ليس بالخطأ اليسير، إنه كشف أسرار الدولة المسلمة لأعدائها، ثم هذا الصحابي ليس من عوام الصحابة، بل هو مِن أولي الفضل منهم، إنه من أهل بدر، ويكفيه هذا شرفا.

والصحابة بمجموعهم خير القرون بقول الرسول ـ  صلى الله عليه وسلم ـ  ، ومع كل هذا زلت به القدم في لحظة من اللحظات، وكَمْ للنفس البشرية من زلات، وهذا من سمات الضعف البشري والعجز الإنساني، ليعلم الله عباده المؤمنين بأن البشر ما داموا ليسوا رسلاً ولا ملائكة فهم غير معصومين من الخطأ، وهذا الذي عناه النبي ـ  صلى الله عليه وسلم ـ  بقوله: (كل بني آدم خطاء، وخير الخطائين التوابون) رواه أحمد.

وقد عامل النبي ـ  صلى الله عليه وسلم ـ  حاطبا ـ  رضي الله عنه ـ  معاملة رحيمة تدل على إقالة عثرات ذوي السوابق الحسنة، فجعل - صلى الله عليه وسلم - من ماضي حاطب سبباً في العفو عنه، وهو منهج تربوي حكيم. .

فلم ينظر النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى حاطب من زاوية مخالفته تلك فحسب ـ  وإن كانت كبيرة ـ  ، وإنما راجع رصيده الماضي في الجهاد في سبيل الله وإعزاز دينه، فوجد أنه قد شهد بدراً، وفي هذا توجيه للمسلمين إلى أن ينظروا إلى أصحاب الأخطاء نظرة متكاملة.

وأن يأخذوا بالاعتبار ما قدموه من خيرات وأعمال صالحة في حياتهم، في مجال الدعوة والخير، والعلم والتربية، والجهاد ونصرة دين الله. .

قال ابن القيم: " من قواعد الشرع والحكمة أن من كثرت حسناته وعظمت، وكان له في الإسلام تأثير ظاهر، فإنه يحتمل منه ما لا يحتمل لغيره، ويُعْفَى عنه ما لا يعفى عن غيره، فإن المعصية خبث، والماء إذا بلغ قلتين لم يحمل الخبث، بخلاف الماء القليل، فإنه لا يحتمل أدنى خبث. ".

وإلى ذلك أشار النبي ـ  صلى الله عليه وسلم ـ  بقوله لعمر ـ  رضي الله عنه ـ :  (وما يدريك لعل الله اطلع على أهل بدر فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم) رواه البخاري.

إن إقالة العثرة، والعفو عن صاحب الخطأ والزلة، ليس إقرارا لخطئه، ولا تهوينا من زلته، ولكنها ـ  مع الإنكار عليه ومناصحته ـ  إنقاذ له، بأخذ يده ليستمر في سيره إلى الله، وعطائه لدين الله. . ومن ثم فإقالة إقالة ذوي العثرات موقف تربوي عظيم من النبي ـ  صلى الله عليه وسلم ـ  للأمة طبقه مع حاطب بن أبي بلتعة ـ  رضي الله عنه ـ  . .

اذهبوا فأنتم الطلقاء:

في السنة الثامنة من الهجرة نصر الله عبده ونبيه محمدا- صلى الله عليه وسلم - على كفار قريش، ودخل مكة فاتحًا منتصرًا، وأمام الكعبة المشرفة وقف جميع أهل مكة، وقد امتلأت قلوبهم رعبا وهلعًا، وهم يفكرون فيما سيفعله معهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعد أن تمكن منهم، ونصره الله عليهم.

وهم الذين آذوه، وأهالوا التراب على رأسه، وحاصروه في شعب أبي طالب ثلاث سنين، حتى أكل هو ومن معه ورق الشجر، بل وتآمروا عليه بالقتل - صلى الله عليه وسلم - ، وعذبوا أصحابه أشد العذاب.

وسلبوا أموالهم وديارهم، وأجلوهم عن بلادهم، لكن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قابل كل تلك الإساءات بموقف تربوي كريم في العفو ـ  يليق بمن أرسله الله رحمة للعالمين ـ  ، فقال لهم: (ما ترون أني فاعل بكم؟ ! ، قالوا: أخ كريم، وابن أخ كريم، قال: اذهبوا فأنتم الطلقاء) رواه البيهقي.

لا رجعة للوثنية:

خرج مع رسول الله ـ  صلى الله عليه وسلم ـ  في غزوة حنين بعض حديثي العهد بالجاهلية، وكانت لبعض القبائل ـ  قبل الإسلام ـ  شجرة عظيمة خضراء يقال لها ذات أنواط يأتونها كل سنة، فيعلقون أسلحتهم عليها للتبرك بها، ويذبحون عندها، ويعكفون عليها، وبينما هم يسيرون مع رسول الله ـ  صلى الله عليه وسلم ـ  إذ وقع بصرهم على الشجرة. .

يقول أبو واقد الليثي - رضي الله عنه -:  (إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لما خرج إلى حنين مَرَّ بشجرة للمشركين يقال لها: ذات أنواط، يعلقون عليها أسلحتهم، فقالوا: يا رسول الله، اجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -:  سبحان الله! هذا كما قال قوم موسى: اجعل لنا إلها كما لهم آلهة، والذي نفسي بيده لتركبن سنة من كان قبلكم) رواه الترمذي.

وهذا يعبر عن عدم وضوح تصورهم للتوحيد الخالص لحداثة إسلامهم، ولكن النبي ـ  صلى الله عليه وسلم ـ  مع رفقه بمن أخطأ لم يسكت على هذا الخطأ، بل حذر من آثاره ونتائجه، وأوضح لهم خطورة ما في طلبهم من معاني الشرك. .

وهكذا كان الرسول ـ  صلى الله عليه وسلم ـ  يربي أصحابه، ويصحح ما يظهر من انحراف في القول أو السلوك أو الاعتقاد، حتى في أشد الظروف والمواجهة مع الأعداء. .

فالمخطئ والجاهل له حق على مجتمعه، يتمثل في نصحه وتقويم اعوجاجه برفق، وبأفضل الطرق وأقومها، فلو أن المسلمين ـ  وخاصة الدعاة والمربين ـ  اقتدوا برسول الله ـ  صلى الله عليه وسلم ـ  وبمواقفه التربوية مع أصحابه، وما فيها من حلم ورفق، ونصح وحكمة، لأثروا فيمن يعلمونهم تأثيراً يجعلهم يستجيبوا لتنفيذ أمر الله وهدي رسول الله ـ  صلى الله عليه وسلم ـ  . .

لن نُغلب اليوم من قلة:

الغرور يمنع النصر، وإذا كانت غزوة بدر قررت للمسلمين أن القلة لا تضرهم شيئا بجانب كثرة أعدائهم، فإن غزوة حُنين أكدت أن كثرة المسلمين لا تفيدهم ولا تنفعهم إذا لم يكونوا مؤمنين صادقين، إذ كان المسلمون في حنين أكثر عددا منهم في أي معركة أخرى خاضوها من قبل.

ومع ذلك لم تنفعهم الكثرة شيئا لما دخل إلى قلوبهم العجب والغرور، فقد حجب الغرورُ النصرَ عن المسلمين في بداية المعركة، حينما قال رجل من المسلمين: " لن نُغْلب اليوم من قلة "، فشق ذلك على النبي ـ  صلى الله عليه وسلم ـ  فكانت الهزيمة. .

وقد عبر القرآن الكريم عن ذلك بقوله: {لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئاً وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ} (التوبة: 25) . .

ومن ثم نبه رسول الله ـ  صلى الله عليه وسلم ـ  إلى أهمية الاستعانة بالله في الحروب وغيرها، ونِسْبة النصر والتوفيق إلى الله في كل شيء، فكان دائما في غزواته وحروبه إذا لقي العدو يقول: (اللهم بك أحول، وبك أصول، وبك أقاتل) رواه أحمد. بك أحول: أتحرك، وبك أصول: أحمل على العدو. .

ولعلَّ هذا الموقف من أبلغ المواقف التربوية في غزوة حنين، وقد انتفع به الصحابة بعد ذلك في حروب كثيرة دارت مع الفرس والروم وغيرهما من أجناس الأرض، وما فَرَّ المسلمون الذين شهدوا حُنَيْنًا بعد ذلك.

فكلهم أيقنوا أن النصر ليس بالعدد ولا بالعدة، وأن الكثرة لا تغني شيئا، ولا تجدي نفعاً في ساحات المعارك، إذا لم تكن قد تسلحت بسلاح العقيدة والإيمان، وأخذت بأسباب النصر وقوانينه. .
فالنصر والهزيمة ونتائج المعارك لا يحسمها الكثرة والقلة والعدة فقط.

وإنما ثمة أمور أُخَر لا تقل شأنا عنها، إن لم تكن تفوقها أهمية واعتبارا، قال الله تعالى: {وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ} (آل عمران: من الآية126) ، وقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} (محمد: 7). .

إن المتأمل في حياة وسيرة النبي ـ  صلى الله عليه وسلم ـ  ليعجب من فقهه في معاملة النفوس، وحكمته في تربيتها وإصلاح أخطائها، وعلاج ما بها من خلل، يظهر ذلك في مواقفه التربوية الكثيرة والجديرة بالوقوف معها لتأملها والاستفادة منها في واقعنا ومناهجنا التربوية..

ومن ثم تمر السنون والأعوام، وتظل سيرة وغزوات النبي ـ  صلى الله عليه وسلم ـ  نبراسا وهاديا، يضيء لنا الطريق في التربية والإصلاح، والعزة والتمكين. .
 
المصدر: موقع إسلام ويب